الثلاثاء، 3 أبريل 2012

أول من رمى بسهم في سبيل الله

انه سعد بن أبي وقاص.. 
أنه أول من رمى بسهم في سبيل الله وأول من أراق دماء الكافرين، فقد بعث رسول الله ( سرية فيها
سعد بن أبي وقاص إلى مكان في أرض الحجاز اسمه سابغ، وهو من جانب الجحفة، فانكفأ المشركون على المسلمين، فحماهم سعد يومئذ بسهامه، فكان أول قتال في الإسلام.

جده أھيب بن مناف، عم السيدة آمنة أم رسول لله صلى لله عليه وسلم..
لقد عانق الاسلام وھو ابن سبع عشرة سنة، وكان اسلامه مبكرا، وانه ليتحدث عن نفسه فيقول:
" .. ولقد أتى عليّ يوم، واني لثلث الاسلام"..!!
يعني أنه كان ثالث أول ثلاثة سارعوا الى الاسلام..
ففي الأيام الأولى التي بدأ الرسول صلى لله عليه وسلم يتحدث فيھا عن لله الأحد، وعن الدين الجديد
الذي يزف الرسول بشراه، وقبل أن يتخذ النبي صلى لله عليه وسلم من دار الأرقم ملاذا له ولأصحابه
الذين بدءوا يؤمنون به.. كان سعد ابن أبي وقاص قد بسط يمينه الى رسول لله صلى لله عليه وسلم
مبايعا..
وانّ كتب التارييخ والسّير لتحدثنا بأنه كان أحد الذين أسلموا باسلام أبي بكر وعلى يديه..
ولعله يومئذ أعلن اسلامه مع الذين أعلنوه باقناع أبي بكر ايّاھم، وھم عثمان ابن عفان، والزبير ابن
العوّام، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد لله.
ومع ھذا لا يمنع سبقه بالاسلام سرا..
وان لسعد بن أبي وقاص لأمجاد كثيرة يستطيع أن يباھي بھا ويفخر..
بيد أنه لم يتغنّ من مزاياه تلك، الا بشيئين عظيمين..
أولھما: أنه أول من رمى بسھم في سبيل لله، وأول من رمي أيضا..
وثانيھما: أنه الوحيد الذي افتداه الرسول بأبويه فقال له يوم أحد:
" ارم سعد فداك أبي وأمي"..
أجل كان دائما يتغنى بھاتين النعمتين الجزيلتين، ويلھج يشكر لله عليھما فيقول:
" ولله اني لأوّل رجل من العرب رمى بسھم في سبيل لله".
ويقول علي ابن أبي طالب:
" ما سمعت رسول لله صلى لله عليه وسلم يفدي أحدا بأبويه الا سعدا، فاني سمعته يوم أحد يقول: ارم
سعد.. فداك أبي وأمي"..
كان سعد يعدّ من أشجع فرسان العرب والمسلمين، وكان له سلاحان رمحه ودعاؤه..
اذا رمى في الحرب عدوّا أصابه.. واذا دعا لله دعاء أجابه..!!
وكان، وأصحابه معه، يردّون ذلك الى دعاء الرسول له.. فذات يوم وقد رأى الرسول صلى لله عليه
وسلم منه ما سرّه وقرّ عينه، دعا له ھذه الدعوة المأثورة..
" اللھم سدد رميته.. وأجب دعوته".
وھكذا عرف بين اخوانه وأصحابه بأن دعوته كالسيف القاطع، وعرف ھو ذلك نفسه وأمره، فلم يكن
يدعو على أحد الا مفوّضا الى لله أمره.
من ذلك ما يرويه عامر بن سعد فيقول:
" رأى سعد رجلا يسب عليا، وطلحة والزبير فنھاه، فلم ينته، فقال له: اذن أدعو عليك، فقال ارجل:
أراك تتھددني كأنك نبي..!!
فانصرف سعد وتوضأ وصلى ركعتين، ثم رفع يديه وقال: اللھم ان كنت تعلم أن ھذا الرجل قد سبّ أقواما
سبقت لھم منك الحسنى، وأنه قد أسخطك سبّه ايّاھم، فاجعله آية وعبرة..
فلم يمض غير وقت قصير، حتى خرجت من احدى الدور ناقة نادّة لا يردّھا شيء حتى دخلت في زحام
الناس، كأنھا تبحث عن شيء، ثم اقتحمت الرجل فأخذته بين قوائمھا.. وما زالت تتخبطه حتى مات"..
ان ھذه الظاھرة، تنبىء أوّل ما تنبىء عن شفافية روحه، وصدق يقينه، وعمق اخلاصه.
وكذلكم كان سعد، روحه حر.. ويقينه صلب.. واخلاصه عميق.. وكان دائب الاستعانة على دعم تقواه
باللقمة الحلال، فھو يرفض في اصرار عظيم كل درھم فيه اثارة من شبھة..
ولقد عاش سعد حتى صار من أغنياء المسلمين وأثريائھم، ويوم مات خلف وراءه ثروة غير قليلة.. ومع
ھذا فاذا كانت وفرة المال وحلاله قلما يجتمعان، فقد اجتمعا بين يدي سعد.. اذ آتاه لله الكثير، الحلال،
الطيب..
وقدرته على جمع المال من الحلال الخالص، يضاھيھا، قدرته في انفاقه في سبيل لله..
في حجة الوداع، كان ھناك مع رسول لله صلى لله عليه وسلم، وأصابه المرض، وذھب الرسول
يعوده، فساله سعد قائلا:
"يا رسول لله، اني ذو مال ولا يرثني الا ابنة، أفأتصدّق بثلثي مالي..؟
قال النبي: لا.
قلت: فبنصفه؟
قال النبي: لا.
قلت: فبثلثه..؟
قال النبي: نعم، والثلث كثير.. انك ان تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرھم عالة يتكففون الناس، وانك
لن تنفق نفقة تبتغي بھا وجه لله الا أجرت بھا، حتى اللقمة تضعھا في فم امرأتك"..
ولم يظل سعد أبا لبنت واحدة.. فقد رزق بعد ھذا أبناء آخرين..
وكان سعد كثير البكاء من خشية لله.
وكان اذا استمع للرسول يعظھم، ويخطبھم، فاضت عيناه من الدمع حتى تكاد دموعه تملؤ حجره..
وكان رجلا أوتي نعمة التوفيق والقبول..
ذات يوم والنبي جالس مع أصحابه، رنا بصره الى الأفق في اصغاء من يتلقى ھمسا وسرا.. ثم نظر في
وجوه أصحابه وقال لھم:
" يطلع علينا الآن رجل من أھل الجنة"..
وأخذ الأصحاب يتلفتون صوب كل اتجاه يستشرفون ھذا السعيد الموفق المحظوظ..
وبعد حين قريب، طلع عليھم سعد بن أبي وقاص.
ولقد لاذ به فيما بعد عبد لله بن عمرو بن العاص سائلا اياه في الحاح أن يدله على ما يتقرّب الى لله من
عمل وعبادة، جعله أھل لھذه المثوبة، وھذه البشرى.. فقال له سعد:
" لا شيء أكثر مما نعمل جميعا ونعبد..
غير أني لا أحمل لأحد من المسلمين ضغنا ولا سوءا".
ھذا ھو الأسد في براثنه، كما وصفه عبد الرحمن بن عوف..
وھذا ھو الرجل الذي اختاره عمر ليوم القادسية العظيم..
كانت كل مزاياه تتألق أما بصيرة أمير المؤمنين وھو يختاره لأصعب مھمة تواجه الاسلام والمسلمين..
انه مستجاب الدعوة.. اذا سأل لله النصر أعطاه اياه..
زانه عفّ الطعمة.. عف اللسان.. عف الضمير..
وانه واحد من أھل الجنة.. كما تنبأ له الرسول..
وانه الفارس يوم بدر. والفارس يوم أحد.. والفارس في كل مشھد شھده مع رسول لله صلى لله عليه
وسلم..
وأخرى، لا ينساھا عمر ولا يغفل عن أھميتھا وقيمتھا وقدرھا بين لخصائص التي يجب أن تتوفر لكل من
يتصدى لعظائم الأمور، تلك ھي صلابة الايمان..
ان عمر لا ينسى نبأ سعد مع أمه يوم أسلم واتبع الرسول..
يومئذ أخفقت جميع محاولات رده وصده عن سبيل لله.. فلجأت أمه الى وسيلة لم يكن أحد يشك في أنھا
ستھزم روح سعد وترد عزمه الى وثنية أھله وذويه..
لقد أعلنت أمه صومھا عن الطعام والشراب، حتى يعود سعد الى دين آبائه وقومه، ومضت في تصميم
مستميت تواصل اضرابھا عن الطعام والسراب حتى أوشكت على الھلاك..
كل ذلك وسعد لا يبالي، ولا يبيع ايمانه ودينه بشيء، حتى ولو يكون ھذا الشيء حياةأمه..
وحين كانت تشرف على الموت، أخذه بعض أھله اليھا ليلقي عليھا نظرة وداع مؤملين أن يرق قلبه حين
يراھا في سكرة الموت..
وذھب سعد ورأى مشھد يذيب الصخر..
ورسوله كان قد تفوّق على كل صخر، وعلى كل لاذ، فاقترب بوجھه من وجه أمه، 􀍿 بيد أن ايمانه با
وصاح بھا لتسمعه:
" تعلمين ولله يا أمّه.. لو كانت لك مائة نفس، فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني ھذا لشيء..
فكلي ان شئت أو لا تأكلي"..!!
وعدلت أمه عن عزمھت\ا.. ونزل الوحي يحيي موقف سعد، ويؤيده فيقول:
( وان جاھداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعھما)..
أليس ھو الأسد في براثنه حقا..؟؟
اذن فليغرس أمير المؤمنين لواء القادسية في يمينه. وليرم به الفرس المجتمعين في أكثر من مائةألف
من المقاتلين المدربين. المدججين بأخطر ما كانت تعرفه الأرض يومئذ من عتاد وسلاح.. تقودھم أذكى
عقول الحرب يومئذ، وأدھى دھاتھا..
أجل الى ھؤلاء في فيالقھم الرھيبة..خرج سعد في ثلاثين ألف مقاتل لا غير.. في أيديھم رماح.. ولكن في
قلوبھم ارادة الدين الجديد بكل ما تمثله من ايمان وعنفوان، وشوق نادر وباھر الى الموت و الى
الشھادة..!!
والتقى الجمعان.
ولكن لا.. لم يلتق الجمعان بعد..
وأن سعدا ھناك ينتظر نصائح أمير المؤمنين عمر وتوجيھاته.. وھا ھو ذا كتاب عمر اليه يأمره فيه
بالمبادرة الى القادسية، فانھا باب فارس ويلقي على قلبه كلمات نور وھدى:
" يا سعد بن وھيب..
لا يغرّنّك من لله، أن قيل: خال رسول لله صلى لله عليه وسلم وصاحبه، فان لله ليس بينه وبين أحد
نسب الا بطاعته.. والناس شريفھم ووضيعھم في ذات لله سوء.. لله ربھم، وھم عباده.. يتفاضلون
بالعافية، ويدركون ما عند لله بالطاعة. فانظر الأمر الذي رأيت رسول لله صلى لله عليه وسلم منذ بعث
الى أن فارقنا عليه، فالزمه، فانه الأمر."
ثم يقول له:
" اكتب اليّ بجميع أحوالكم.. وكيف تنزلون..؟
وأين يكون عدوّكم منكم..
واجعلني بكتبك اليّ كأني أنظر اليكم"..!!
ويكتب سعد الى أمير المؤمنين فيصف له كل شيء حتى انه ليكاد يحدد له موقف كل جندي ومكانه.
وينزل سعد القادسية، ويتجمّع الفرس جيشا وشعبا، كما لم يتجمعوا من قبل، ويتولى قيادة الفرس أشھر
وأخطر قوّادھم "رستم"..
ويكتب سعد الى عمر، فيكتب اليه أمير المؤمنين:
، وتوكل عليه، وابعث اليه رجالا من أھل 􀍿 " لا يكربنّك ما تسمع منھم، ولا ما يأتونك به، واستعن با
لنظر والرأي والجلد، يدعونه الى لله.. واكتب اليّ في كل يوم.."
ويعود سعد فيكتب لأمير المؤمنين قائلا:
" ان رستم قد عسكر ب ساباط وجرّ الخيول والفيلة وزحف علينا".
ويجيبه عمر مطمئنا مشيرا..
ان سعد الفارس الذكي المقدام، خال رسول لله، والسابق الى الاسلام، بطل المعارك والغزوات، والذي لا
ينبو له سيف، ولا يزيغ منه رمح.. يقف على رأس جيشه في احدى معارك التاريخ الكبرى، ويقف وكأنه
جندي عادي.. لا غرور القوة، ولا صلف الزعامة، يحملانه على الركون المفرط لثقته بنفسه.. بل ھو
يلجأ الى أمير المؤمنين في المدينة وبينھما أبعاد وأبعاد، فيرسل له كل يوم كتابا، ويتبادل معه والمعركة
الكبرى على وشك النشوب، المشورة والرأي...
ذلك أن سعدا يعلم أن عمر في المدينة لا يفتي وحده، ولا يقرر وحجه.. بل يستشير الذين حوله من
المسلمين ومن خيار أصحاب رسول لله.. وسعد لا يريد برغم كل ظروف الحرب، أن يحرم نفسه، ولا أن
يحرم جيشه، من بركة الشورى وجدواھا، لا سيّما حين يكون بين أقطابھا عمر الملھم العظيم..
**
وينفذ سعد وصية عمر، فيرسل الى رستم قائد الفرس نفرا من صحابه يدعونه الى لله والى الاسلام..
ويطول الحوار بينھم وبين قائد الفرس، وأخيرا ينھون الحديث معه اذ يقول قائلھم:
" ان لله اختارنا ليخرج بنا من يشاء من خلقه من الوثنية الى التوحيد... ومن ضيق الدنيا الى سعتھا،
ومن جور الحكام الى عدل الاسلام..
فمن قبل ذلك منا، قبلنا منه، ورجعنا عنه، ومن قاتلنا قاتلناه حتى نفضي الى وعد لله.."
ويسأل رستم: وما وعد لله الذي وعدكم اياه..؟؟
فيجيبه الصحابي:
" الجنة لشھدائنا، والظفر لأحيائنا".
ويعود لبوفد الى قائد المسلمين سعد، ليخبروه أنھا الحرب..
وتمتلىء عينا سعد بالدموع..
لقد كان يود لو تأخرت المعركة قليلا، أو تقدمت قليلا.. فيومئذ كان مرضه قد اشتد عليه وثقلت وطأته..
وملأت الدمامل جسده حتى ما كان يستطيع أن يجلس، فضلا أن يعلو صھوة جواده ويخوض عليه
معركة بالغة الضراوة والقسوة..!!
فلو أن المعركة جاءت قبل أن يمرض ويسقم، أولوأنھا استأخرت حتى يبل ويشفى، اذن لأبلى فيھا بلاءه
العظيم.. أما الآن.. ولكن، لا، فرسول لله صلى لله عليه وسلم علمھم ألا يقول أحدھم: لو. لأن لو ھذه
تعني العجز، والمؤمن القوي لا يعدم الحيلة، ولا يعجز أبدا..
عنئذ ھب الأسد في براثنه ووقف في جيشه خطيبا، مستھلا خطابه بالآية الكريمة:
(بسم لله الرحمن الرحيم..
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثھا عبادي الصالحون)..
وبعد فراغه من خطبته، صلى بالجيش صلاة الظھر، ثم استقبل جنوده مكبّرا أربعا: لله أكبر.. لله أكبر..
لله أكبر.. لله أكبر..
ودوّى الكن وأوّب مع المكبرين، ومد ذراعه كالسھم النافذ مشيرا الى العدو، وصاح في جنوده: ھيا على
بركة لله..
وصعد وھو متحاملا على نفسه وآلامه الى شرفة الدار التي كان ينزل بھا ويتخذھا مركزا لقيادته..وفي
الشرفة جلس متكئا على صدره فوق وسادة. باب داره مفتوح.. وأقل ھجوم من الفرس على الدار يسقطه
في أيديھم حيا أو ميتا.. ولكنه لا يرھب ولا يخاف..
دمامله تنبح وتنزف، ولكنه عنھا في شغل، فھو من الشرفة يكبر ويصيح.. ويصدر أوامره لھؤلاء: أن
تقدّموا صوب الميمنة.. ولألئك: أن سدوا ثغرات الميسرة.. أمامك يا مغيرة.. وراءھم يا جرير.. اضرب يا
نعمان.. اھجم يا أشعث.. وأنت يا قعقاع.. تقدموا يا أصحاب محمد..!!
وكان صوته المفعم بقوة العزم والأمل، يجعل من كل جندي فردا، جيشا بأسره..
وتھاوى جنود الفرس كالذباب المترنّح.ز وتھاوت معھم الوثنية وعبادة النار..!!
وطارت فلولھم المھزومة بعد أن رأوا مصرع قائدھم وخيرة جنودھم، وطاردھم كالجيش المسلم عتى
نھاوند.. ثم المدائن فدخلوھا ليحملوا ايوان كسرى وتاجه، غنيمة وفيئا..!!
**
وفي موقعة المدائن أبلى سعد بلاء عظيما..
وكانت موقعة المدائن، بعد موقعة القادسية بقرابة عامين، جرت خلالھما مناوشات مستمرة بين الفرس
والمسلمين، حتى تجمعن كل فلول الجيش الفارسي ويقاياه في المدائن نفسھا، متأھبة لموقف أخير
وفاصل..
وأدرك سعد أن الوقت سيكون بجانب أعدائه. فقرر أن يسلبھم ھذه المزية.. ولكن أنّى له ذلك وبينه وبين
المدائن نھر دجلة في موسم فيضانه وجيشانه..
ھنا موقف يثبت فيه سعد حقا كما وصفه عبد الرحمن بن عوف الأسد في براثنه..!!
ان ايمان سعد وتصميمه ليتألقان في وجه الخطر، ويتسوّران المستحيل في استبسال عظيم..!!
وھكذا أصدر سعد أمره الى جيشه بعبور نھر دجلة.. وأمر بالبحث عن مخاضة في النھر تمكّن من عبور
ھذا النھر.. وأخيرا عثروا على مكان لا يخلو عبوره من المخاطر البالغة..
وقبل أن يبدأ الجيش الجيش عملية المرور فطن القائد سعد الى وجوب تأمين مكان الوصول على
الضفة الأخرى التي يرابط العطو حولھا.. وعندئذ جھز كتيبتين..
الأولى: واسمھا كتيبة الأھوال وأمّر سعد عليھا عاصم ابنعمرو والثانية: اسمھا الكتيبة الخرساء وأمّر
عليھا القعقاع ابن عمرو..
وكان على جنود ھاتين الكتيبتين أن يخوضوا الأھوال لكي يفسحوا على الضفة الأخرى مكانا آمنا
للجيش العابر على أثرھم.. ولقد أدوا العمل بمھارة مذھلة..
ونجحت خطة سعد يومئذ نجاحا يذھل له المؤرخون..
نجاحا أذھل سعد بن أبي وقاص نفسه..
وأذھل صاحبه ورفيقه في المعركة سلمان الفارسي الذي أخذ يضرب كفا بكف دھشة وغبطة، ويقول:
" ان الاسلام جديد..
ذلّلت ولله لھم البحار، كما ذلّل لھم البرّ ..
والذي نفس سلمان بيده ليخرجنّ منه أفواجا، كما دخلوه أفواحا"..!!
ولقد كان .. وكما اقتحموا نھر دجلة أفواجا، خرجوا منه أفواجا لم يخسروا جنديا واحدا، بل لم تضع منھم
شكيمة فرس..
ولقد سقط من أحد المقاتلين قدحه، فعز عليه أن يكون الوحيد بين رفاقه الذي يضيع منه شيء، فنادى
في أصحابه ليعاونوه على انتشاله، ودفعته موجة عالية الى حيث استطاع بعض العابرين التقاطه..!!
وتصف لنا احدى الروايات التاريخية، روعة المشھد وھم يعبرون دجلة، فتقول:
[أمر سعد المسلمين أن يقولوا: حسبنا لله ونعم الوكيل.. ثم اقتحم بفرسه دجلة، واقتحم الناس وراءه، لم
يتخلف عنه أحد، فساروا فيھا كأنما يسيرون على وجه الأرض حتى ملؤا ما بين الجانبين، ولم يعد وجه
الماء يرى من أفواج الفرسان والمشاة، وجعل الناس يتحدثون وھم يسيرون على وجه الماء كأنھم
يتحدون على وجه الأرض؛ وذلك بسبب ما شعروا به من الطمأنينة والأمن، والوثوق بأمر لله ونصره
ووعيده وتأييده]..!!
ويوم ولى عمر سعدا امارة العراق، راح يبني للناس ويعمّر.. كوّف الكوفة، وأرسى قواعد الاسلام في
البلاد العريضة الواسعة..
وذات يوم شكاه أھل الكوفة لأمير المؤمنين.. لقد غلبھم طبعھم المتمرّد، فزعموا زعمھم الضاحك،
قالوا:" ان سعدا لا يحسن يصلي"..!!
ويضحك سعد من ملء فاه، ويقول:
"ولله اني لأصلي بھم صلاة رسول لله.. أطيل في الركعتين الأوليين، وأقصر في الأخريين"..
ويستدعيه عمر الى المدينة، فلا يغضب، بل يلبي نداءه من فوره..
وبعد حين يعتزم عمر ارجاعه الى الكوفة، فيجيب سعد ضاحكا:
" اأتمرني أن أعود الى قوم يزعمون أني لا أحسن الصلاة"..؟؟
ويؤثر البقاء في المدينة..
وحين اعتدي على أمير المؤمنين عمر رضي لله عنه وأرضاه، اختار من بين أصحاب الرسول عليه
الصلاة والسلام، ستة رجال، ليكون اليھم أمر الخليفة الجديد قائلا انه اختار ستة مات رسول لله صلى
لله عليه وسلم وھو عنھم راض.. وكان من بينھم سعد بن أبي وقاص.
بل يبدو من كلمات عمر الأخيرة، أنه لو كان مختارا لخلافة واحدا من الصحابة لاختار سعدا..
فقد قال لأصحابه وھو يودعھم ويوصيھم:
" ان وليھا سعد فذاك..
وان وليه غيره فليستعن بسعد".
**
ويمتد العمر بسعج.. وتجيء الفتنة الكبرى، فيعتزلھا بل ويأمر أھله وأولاده ألا ينقلوا اليه شيئا من
أخبارھا..
وذات يوم تشرئب الأعناق نحوه، ويذھب اليه ابن أخيه ھاشم بن عتبة بن أبي وقاص، ويقول له:
يا عم، ھا ھنا مائة ألف سيف يروك أحق الناس بھذا الأمر.
فيجيبه سعد:
" أريد من مائة ألف سيف، سيفا واحدا.. اذا ضربت به المؤمن لم يصنع شيئا، واذا ضربت به الكافر
قطع"..!!
ويدرك ابن أخيه غرضه، ويتركه في عزلته وسلامه..
وحين انتھى الأمر لمعاوية، واستقرت بيده مقاليد الحكم سأل سعدا:
مالك لم تقاتل معنا..؟؟
فأجابه:
" اني مررت بريح مظلمة، فقلت: أخ .. أخ..
واتخذت من راحلتي حتى انجلت عني.."
فقل زعاوية: ليس في كتاب لله أخ.. أخ.. ولكن قال لله تعالى:
(وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينھما، فان بغت احداھما على الأخرى، فقاتلوا التي تبغي
حتى تفيء الى أمر لله).
وأنت لم تكن مع الباغية على العادلة، ولا مع العادلة على الباغية.
أجابه سعد قائلا:
" ما كنت لأقاتل رجلا قال له رسول لله: أنت مني بمنزلة ھرون من موسى الا أنه لا نبي بعدي".
**
وذات يوم من أيام الرابع والخمسين للھجرة، وقد جاوز سعد الثمانين، كان ھناك في داره بالعقيق يتھيأ
لقاء لله.
ويروي لنا ولده لحظاته الأخيرة فيقول:
[ كان رأس أبي في حجري، وھو يقضي، فبكيت وقال: ما يبكيك يا بنيّ ..؟؟
ان لله لا يعذبني أبدا وأني من أھل الجنة]..!!
ان صلابة ايمانه لا يوھنھا حتى رھبة المةت وزلزاله.
ولقد بشره الرسول عليه الصلاة والسلام، وھو مؤمن بصدق الرسول عليه الصلاة والسلام أوثق
ايمان..ز واذن ففيم الخوف..؟
[ ان لله لا يعذبتي أبدا، واني من أھل الجنة].
بيد أنه يريد أن يلقى لله وھو يحمل أروع وأجمل تذكار جمعه بدينه ووصله برسوله.. ومن ثمّ فقد أشار
الى خزانته ففتوحھا، ثم أخرجوا منھا رداء قديما قي بلي وأخلق، ثم أمر أھله أن يكفنوه فيه قائلا:
[ لقد لقيت المشركين فيه يوم بدر، ولقد ادخرته لھذا اليوم]..!!
اجل، ان ذلك الثوب لم يعد مجرّد ثوب.. انه العلم الذي يخفق فوق حياة مديدة شامخة عاشھا صاحبھا
مؤمنا، صادقا شجاعا!!
فوق أعناق الرجال حمل الى المدينة جثمان آخر المھاجرين وفاة، ليأخذ مكانه في سلام الى جوار ثلة
طاھرة عظيمة من رفاقه الذين سبقوه الى لله، ووجدت أجسامھم الكادحة مرفأ لھا في تراب البقيع
وثراه.
**
وداعا يا سعد..!!
وداعا يا بطل القادسية، وفاتح المدائن، ومطفىء النار المعبودة في فارس الى الأبد..!!


المصدر : كتاب رجال حول الرسول .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق